Sunday, January 14, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: المكنسة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/المكنسَة/

اكتشفتُ بالصدفة البحتة أن حلول عام 2018 يعني مرور 45 سنة على رائعة فيروز "إيماني ساطع" أغنية أشبه بالترتيلة حيث تقول كلمات الأخوين الرحباني:


مهما اتأخر جايي / ما بيضيع اللي جايي / ع غفلة بيوصل من قلب الضو / من خلف الغيم / ما حدا بيعرف هاللي جايي / كيف يبقى جايي

تطالعك الأسطر الأولى من هذه الأغنية بمصاحبة لحن أشبه بتفتح وردة مع شروق الشمس، تتمطى ساقُها مُرحبة بأشعة طال انتظارُها خلال الليل وتتوالى رقصات البتلات وهي تفرد جسمها على غير استحياء مع كل نوتة موسيقية بعذوبة ندى الصباح. وفجأة...

إيماني ساطع يا بحر الليل / إيماني الشمس المدى والليل / ما بيتكسر إيماني / ولا بيتعب إيماني / إنت اللي ما بتنساني

مالذي حصل؟ مع أن نغمات البيانو لا تزال تلوّن الخلفية برِقّة إلا أن اللحن بحد ذاته قد تحول إلى مارش عسكري مبطّن، فأراني أغني كالجندية بوقفتها المنتصبة وقد ارتديت زيّا حربيّا، ينعكس بريق الشمس في لمعان قبعتي، أرفع يدي كمن يؤدي القسم الكانونيّ (نسبة للتسمية السريانية لشهر كانون الثاني – يناير) على خشبة المسرح مع بداية عام جديد أتلو فيه نوعاً من أنواع الـ  statement of faith ليس عن حفظ وتكرار فارغ بل عن اختبار مُعاش في السنين الطويلة التي مضت... والرب معتني بي، وكل يوم محمولة... ع الأذرع الأبدية.

أنا إيماني الفرح الوسيع / من خلف العواصف جايي ربيع / إزا كِبرِت أحزاني / نسيني العمر التاني / انت اللي ما بتنساني

"كزّابة" ... تصرخ إحدى الحاضرات واقفة بين صفوف المتفرجين وتتقدم بخطاها نحوي كما فعل ذلك الشاب في الدقيقة 1:08 من كانتاتا الميلاد بالكنيسة الإنجيلية الثانية بأسيوط مقاطعاً القراءة الكتابية. فأسألها مقتبسة كلمات الدكتور ماجد عزمي: "مالِك، في إيه؟"
وتجيب المشاغِبة: "مافي شي، بس عم قلِك انك انتِ واحدة كزابة! عن أي إيمان عم تحكي وتغني؟"

تداعبني فكرة الإنهاء السريع للموقف وإجهاض هذا العرض المسرحي الساخر. بإشارة مني سيتم إطفاء الأنوار وإسدال الستار لأَخرج متنكرة في زي عامل نظافة أحمل مكنستي مخاطبة القراء: "شو مستنيين؟ خلّصنا خلاص، كل واحد يشوف شغله، بدنا نشطف (عايزين نرش مية)" فأفُضّ التجمهر وأنفُضُ الإحراج... بمكنستي.

لكن الحقيقة أن أُختَنا المشاغبة تلك على حق. فكلمات الأغنية الفيروزية رغم لين موسيقاها إلا أنها تمتلك أكثر من نصل حاد يقطع الشك باليقين، يقين أن إيماني في الحقيقة متكسّر ومتعَب، لا بل متهشّم ومتهالِك. تلك هي حالة "إيماني"، الآن وهنا، ليس إيماني على امتدات السنين وإنما إيماني تحديدا في هذه الحقبة من حياتي. في حقبة من الانتظارات الجديدة كما كتبتُ عنها في مقال "الإنتظار" وكما تكلم عنها عنوان وفحوى الكانتاتا يوم الأحد الماضي.

كيف أجرؤ إذا على ترداد هذه الترتيلة، ذاكرةً كلماتٍ كالفرح والسعة والربيع بينما يغُصّ قلبي بالدموع وتختنق كلماتي طلباً للأوكسيجين على رؤوس أصابعي المتجمدة؟

"أؤمن وأعترف"، كان هذا عنوان الصلاة التي كنا نتلوها في مدرستي "راهبات المعونة الخاصة للبنات" بدمشق قبل  التقدم لممارسة سر المناولة (فريضة العشاء الرباني) وها أنا أستخدم العنوان ذاته لكن لتلاوة صلاة هي صلاتي غير "الكاذبة" مع مطلع عام جديد، صلاة المكنسة، فمع كل إقرار إيمان هناك كَنْسةُ اعترافٍ أصرِفُ بها كلَّ ما يقف حائلاً دون تحوّلِ إقراراتي النظرية تلك إلى واقعٍ يوميٍ مُعاش.

-         أؤمن وأعترف -
أؤمن يارب بأنك الله الخالق، وأنك قد خلقتني على صورتك ومثالك..
وأعترف بأنني خلقتك على مقاسي وحشرتك داخل محدوديتي..
أؤمن بأنك صالح وأن أفكارك نحوي أفكار خير..
وأعترف بأنني لازلت أرفع قبضتي الغاضبة إلى السماء عالياً وأعترض على صلاحك لأني عاجزة عن فهمه..
أؤمن بأن مستقبلي مضمون فيك..
وأعترف بأنني غارقةٌ حتى أذنيّ ببحرٍ من الشكك والتساؤلات والتمرد والتهكمات..
أؤمن بأن أشواق قلبي مُحققة في شخصك..
وأعترف بأنني أشتهي ما هو ليس لي، وليس لخيري، وليس بحسب قصدك لحياتي..
أؤمن بأنك روح وبأنني بالروح و الحق ينبغي أن أسجدَ لك..
وأعترف بأنني أريدك جسداً كي أضع إصبعي في أثر المسامير وأسنِد رأسي على صدرك وأبتدعَ سبعَ حواسٍ جديدة كي أمتلك دزينة منها فبدل أن أتمتعَ بك، أستخدمك لإشباع رغباتي واحتياجاتي الخاصة بطريقتي أنا بعيدا عن طبيعتك وكينونتك أنت..
أؤمن بأنك مصدر كل حكمة وفهم..
وأعترف بأن خلايا دماغي التي سبكَتْها يداك قد وصل بها الجبروت لأن تدّعي تفوُقَها عليك ..
أؤمن بأنك كُليّ الوجود..
وأعترف بأنني وحيدة، وأنك قد نسيتني، فلا أشعر بقُربِك، ولا أُدرك بأنك تلفّني بحضورك حولي وفي داخلي ومن خلالي..

...تتكاثف تدريجياً غمامة الغبار الناتج عن عملية الكنس يرافقها هيستيريا من الدموع والسعال فأٌقرر التوقف عند هذا الحد. أسند ذراع مكنستي على الحائط وأجلس القرفصاء بجوارها متخذة قسطاً من الراحة... ولكن إلى حين...


بدون تعليق: ولازلت في 2018 أستمتع بالأعمال المنزلية كالكنس والطبخ والتنظيف مع كرهي الأزلي الأبدي لأمرين أمقتهما وبشدة: الأول أن هذه المهام by default مفروضة عليّ ومتوَقَعة مني لمجرّد أن الله خلقني أنثى!!! مين اللي قال؟ والثاني أنها مهام تدور في دائرة مفرغة عقيمة تستنزف لا طاقتي ووقتي فقط بل عمري كله... البيت لما بانضفه بيتوسخ، والغسيل لما باخلصه بينلبس، والأكل لما باعمله بيتاكل... طب وبعدين؟ أما من مُنقِذ؟

No comments:

Post a Comment