Saturday, August 19, 2017

مذكرات زوجة قسيس شابة: الحالة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الحالة/

تؤخَذ على حين غرّة، فتفاجئك جملة بصوتٍ مألوف: "لم أَعُد أكتب" وتحتار كيف يجرؤ صوتك أن يخونك معترفًا بسرّ لم تذكره من قبل سوى مرة واحدة في محضر طبيب نفسي. "لم أعد أكتب... منذ أربعة عشر شهراً لم أكتب شيئاً"، قلتها وأنا أستمع إلى وقع تلك الكلمات عليّ وعليه على حد سواء. تجهّم وجهه وتجمّدت في عينيه الواسعتين نظرة ملؤها الكلام إلا أن صمتها هو ما دفعني لأن أستطرد في الشرح وكأني كنت، دون أن أدري، بانتظار تلك النظرة كما ينتظر المتسابق صافرة البدء. فانطلقتُ أسابق إرادتي خوفَا من أن تكبّلني من جديد بسلاسل السرية والكتمان إن أنا أبطأت أو ترددت في الكلام.

فريدُ الإسم والأسلوب. بدا عليه التقدم في السن بفارق سنوات ضوئية ما بين حالته الصحية ويفاعة طاقته في الحياة. أراه في مخيلتي في صورة من ستينات القرن الماضي شابًا بحكمة كهل، وأتعرف عليه في العقد الثاني من القرن الحالي شيخًا يافع الروح.
افترضت أن يكون شكلي مألوفًا بالنسبة له أو أنه بحكم صغر مدينة الاسكندرية يعرف أنني زوجة القس مايكل فتحركت بضعة خطوات كي أقترب منه بعد انتهاء خدمة التعزية في كنيستنا إثر انتقال شقيقة الشيخ نبيل جرجس إلى المجد. مددت يدي كي أصافحه فوضع يده المرتعشة على كتفي وقال: "أنا بحبك جداً على فكرة".
كدت أن أتلفت حولي كي أتأكد من أنه يخاطبني أنا وليس شخصًا ما يقف إلى جانبي أو خلفي، فأكمل قائلا: "وباحب مقالاتك. مقالة حادثة الطفل اللي غرق والمقالة اللي فيها بتشبّهي القسوس بالأمهات، وعايز أقولك لازم تكتبي كتاب". لست أدري ما الذي انتابني في تلك اللحظة، أهو ذهول أم صدمة أم كليهما معًا. همّ لساني كردّ فعلٍ تلقائي ولا إرادي يتفوّه بكلمات التواضع والامتنان من باب المجاملات الاجتماعية واللباقة فقاطعني معترضًا: "مش ده قصدي..." وأكمل كلامه. لكنني كنت قد حلّقت عاليًا خارج سقف الكنيسة واقتربت من الغيوم الاسكندرانية الصيفية. كان كل ما أسمعه هو جملة تردَّدَ صداها في رأسي: "بيعرفني... الشيخ فريد أبادير بيعرفني!". وعندما عادت حاسة السمع عندي إلى طبيعتها كان أنكل فريد لا يزال يتكلم عن مقالاتي التي تشدّ القارئ من سطورها الأولى كي يكمل القراءة بنهم حتى النهاية، على حد تعبيره.

تساءلت إن كان من المفترض أن أشعر بنفس هذا النوع من النشوة، إن صح التعبير، بل وأكثر من نشوة، إن فكرت ملياً بحقيقة أن "الله يعرفني"... "ملك الكون بيعرفني" ليس فقط أنه يعرف من أنا، ويقرأ كتاباتي ويحبها!! لكنه يعرفني لأنني "قد امتزتُ عجبًا". إن كنا نتسلح فعلا بهذه الحقيقة فأنَّى لأفاعي صغر النفس أن تطل برؤوسها لتمرغ رؤوسنا في طين انعدام القيمة. تتقاذفني أفكاري تلك بين أياديها ككرة الشاطئ، تارة تضعني في خانة الحقيقة الجديدة أتلمظ حلاوة مذاقها في فمي كطعم السكر، وطورا تُدخِلُني في محضر رغيف الخبز الأسمر الصحي منبّهة عقلي إلى الأساس الروحي الأكبر والأهم لشعوري بأنني لست مجرد نكرة، مجرد زوجة قسيس في بحر الأرقام والخدام وزحام سينودس النيل.

ما بين الفكرة البشرية والأخرى الروحية خرجَتْ كيمياء دماغي عن السيطرة متخذة قرارات متهورة وبدأ البوح: "في شي على بلاط البسين من سنة وشهرين ربطني، والولد بين إيديي كنت لسا عم أرفض صدق انه مات، متل ما في ناس بينعقد لسانها بتبطل تحكي بعد صدمة، أنا انعقد قلمي. كتبت المقال تاني يوم ومن ساعتها ماني قدرانة أكتب... كان عندي لوم على ربنا كيف ما بيلبي طلبي وأنا عم أصرخ يا يسوع... صار عندي رعب اني فكّر طب لو كان هاد ابني كنت كمان ما سمعتلي يارب؟...".
تعبيرات وجهه التي جمعت ما بين الجدية والحنان خلقت مساحة أمان كالقوقعة من حولي وكأني أسمع صوت كاهن داخل غرفة الاعتراف يأتيني عبر ثقوب الحاجز الخشبي الفاصل بيننا: "أكملي يا ابنتي"، فأكمِل راكعة راجية لهذه اللعنة أن تنفكّ عني. لم أكن أعي في تلك اللحظة أنني وبعد ساعات قليلة من البوح والاعتراف لهذا الكاهن سأنال الشفاء الذي طالما التمسته طيلة الأشهر الأربعة عشر، وأبدأ رسميًا رحلة التعافي. فأنا وإن نلت الشفاء في لحظة إلى أنني لم أتمّه بعد. كما هي الحال في الفرق ما بين خلاص التبرير وخلاص التقديس (عذرا لجدية التشبيه، من واقع تعرض زوجات القسوس لـ overdose من الوعظ) فقد انفكّت عقدة قلمي في لحظة ولكنني لا أزال أحتاج إلى قطع أشواط من التدريب كي أعود إلى العدو في مضمار الكتابة وأحلم بنيل الجعالة.

أنكل فريد هو بالنسبة لي "حالة" أكثر منه شيخ واعظ وخادم مبارك. يصف زوجي أسلوب الشيخ فريد الوعظي بأن له "طابع صوفي" كلما اعتلى منبر الابراهيمية. قارئ، كاتب، متعمق، متأمل، ذكي، لماح، حاضر الذهن، خفيف الظل، رجل صلاة... هو حالة عشق روحاني مشتعلة يستحيل عليك الاقتراب منها دون أن تمَسّك نارُها الملتهبة كعذوبة ندى الربيع، وأنا تجرّأت واقتربت منها البارحة فكان نصيبي لمسة شافية تشهد عنها هذه الأسطر.

وكعادتي في التعبير عن امتناني لأشخاص كان لهم دور مفصليّ في حياتي، سواء اقتصر الدور على مرحلة ما، أم امتدّ عبر مراحلَ عدّة، فأنا عِوضًا عن توجيه الشكر لهم، أشكر الله من أجل وجودهم في حياتي. لذا أنا لن أشكركَ أنكل فريد لكني أشكر الله من أجلك، أشكر إلهي أنه شاءت حكمته أن يرسل لزمرة المؤمنين في هذا العصر والزمان وفي هذه البقعة الجغرافية "حالة" هي الشيخ فريد أبادير، لتكون حالة عاشقة وناقلة ليس فقط للحب الإلهي لكنها ناطقة بلغة الضاد تستخدم غنى الجذور العربية لتصيغ لنا حقائق من كلمة الله الحية وبشارة الفداء، جُدداً وعُتقاء، فنتشارك في "حالة الإثراء" ونطمع بالمزيد فنصلي أن يمد الله في عمر أنكل فريد لأنه (وسأسرق تعبيره الذي ذكره أثناء خدمة التعزية) "مفيش منه كتير، مفيش منه خالص".

بدون تعليق: هاستأذنك يا شيخ فريد، متل ما قلتلك امبارح، انك تسمحلي ان شهادتك اللي قلتها عن كتاباتي أعلقها نيشان على صدري وأفتخر فيها.