Wednesday, July 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة : الجزرة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الجزرة/

سأل مواطن أجنبي نظيره العربي قائلا: "ما هي أحلامك؟" أجاب الأخير: "أن أحصل على شهادة جامعية تضمن لي عملاً جيداً وأشتري منزلاً وأتزوج ويرزقني الله بأطفال أتمكن من تربيتهم وتأمين رعاية صحيه لهم وإرسالهم إلى مدارس جيدة." رد الأجنبي باستغراب:"من الواضح أنك أخطأت الفهم، أنا سألتك ما هي أحلامك ولم أسألك ما هي حقوقك!"


تقرأ لنا هذه القصة يافطة من المحيط إلى الخليج كتب عليها  Welcome to the MENA region (Middle East and North Africa) حيث تصبح أبسط الحقوق الإنسانية أحلاماً صعبة التحقيق، هذا ولم يجرؤ مواطننا العزيز على ذكر الأمان من ضمن "أحلامه" فقد باتت هذه العملة النادرة تنتمي إلى مصاف أحلام اليقظة أو المستحيلات السبعة ولا حاجة لنا لذكرها.

الغريب في الأمر أننا لو نظرنا إلى المجتمعات الغربية ومواطني بلدان العالم المتحضر سنرى أن حقوقهم المكفولة بسيادة القانون ليست حافزا كافياً لهم ليحلموا فنسمع جملهم التحفيزية تقول: “Dare to dream”ونتساءل: هل يحتاج الحلم في بلادهم إلى جرأة  وشجاعة؟ قد يظن البعض أن الحلم رفاهية هي فقط في متناول يد من يتمتعون بالبحبوحة (سواء كانت بحبوحة مادية أم معنوية) فنكذب على أنفسنا ونقول: عندما أرتاح سأبدأ أحلم بالمستقبل، لكنني الآن مطحون تحت رحى الاحتياجات اليومية الأساسية في حياتي وحياة أسرتي ومستقبلنا جميعاً. إنها فعلا أكبر أكذوبة مغلفة بطبقة من السكر كي نقبلها على أنها حقيقة.

قد لا أكون أنا الشخص الأنسب للحديث عن الأحلام على وجه التحديد. وقد لا تكون هذه المرحلة من حياتي هي الأمثل كي أتناول موضوعاً كهذا وأكتب عنه. السبب في ذلك بكل بساطة هو أنني منهكة من ملاحقة ما بدا لي أنه حلمي لكنه حالياً أشبه بالكابوس المتمثل في شكل "جزرة"، وكلنا نعرف ما هي الجزرة التي تتدلى من آخر حبل مربوط إلى عصى تجعل الجزرة عصية المنال، وهنا استوجب مني تقديم الاعتذار إلى الحمار أنني للمرة الأولى في حياتي "حسيت بيك حقيقي". ما بين مطرقة الجزرة وسندان الحلقات المفرغة التي علقتُ في مداراتها إلى أن أصابني الدوار حرفيا وبدأت أعاني من أمراض قد تكون سايكوسوماتية مع كل كشف طبي يظهر أنني سليمة 100% فما السبب إذا لصداع لا يطاق وثقل في رأسي يليه حالات دوار وإغماء؟ والخطر الحقيقي هنا لا يكمن في الإغماء نفسه بل في احتماليات حدوثه وأنا في الشارع برفقة طفلين أو وراء مقود السيارة! هل هناك تشخيص طبي أو نفسي يتهمني بتناول جرعة زائدة من الأحلام؟

على الرغم من الوعكة الصحية قررت أن أحضر مؤتمر زوجات القسوس، تلك العلامة الفارقة في حياتي التي دفعتني الصيف الماضي إلى بداية سلسلة "مذكرات زوجة قسيس شابة"  وكتابة مقال شهري تحت هذا العنوان. قررت أن "أطنش وأخاطر" وذهبت برفقة ابني ذو الأعوم الستة وابنتي في ربيعها الرابع وعلى كتف كلٍّ منا جرة (أو بالأحرى جِرار) خاوية طمعاً منا أن نروي ظمأً طالت معاناتنا منه.

في المؤتمر فكرت أن أطبق مبدأ "اللي يشوف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته" واستأذنت قائدة المؤتمر أن أوزع على المشاركات استبياناً عن أحلامهن كنت قد أعددته مسبقاً. الأوراق الخمس والعشرون التي جمعناها ليست نسبة كافية لتعبر عن أحلام خمس وسبعين سيدة مشاركة ولكنها كانت كافية لتقول لي أننا مازلنا نحلم. كمواطنات مصريات (بيننا سورية وعراقية وفلسطينية) لازلنا نحلم، كنساء في مجتمع عربي لازلنا نحلم، كزوجات قسوس لازلنا نحلم. اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أقرأ أحلام زوجات قسوس who dared to dream  على الرغم من أنف كل شيء لا زلن يحلمن، يحلمن لكنائسهن، يحلمن لأسرهن، يحلمن لأنفسهن، فهذه هي الأمنيات الثلاث التي ذكرتها في الاستبيان على افتراض أن كل واحدة فينا وجدت فانوسا ً (سواء كان فانوساً سحرياً أو فانوساً رمضانياً مع تصادف توقيت مؤتمرنا خلال شهر رمضان هذا العام) وظهر منه مارد طيب منحنا أمنيات ثلاث. ولأنني على علم بالتركيبة الشرقية لزوجات القسوس في بلادنا لم أجد مفرّاً من تحديد ثلاثة أنواع للأمنيات لأنني لو لم أفعل لخرجَتْ الأمنيات الثلاث من نصيب الكنيسة والخدمة. لو وضعنا أي سيدة أمام هذا التحدي وأجبرناها أن تحلم فسنرى أن حلمها لن يتعدى الإطار الأسري وإذا كانت تلك السيدة زوجة قسيس فإن حلمها لن يتعدى الإطار الكنسي لذا استدعى مني الأمر أن "أزنق الستات" في ركن ثالث وهو تحديد حلم يطال الإطار الشخصي والذاتي لكل منهن، حلم يخص هويتها هي وكيانها المستقل كإنسان بعيدا عن شتى الأدوار التي من المفترض أن تلعبها في حياتها وخدمتها.

لو كان للتقاليد أيادٍ أخطبوطية لسرقَتْ أوراق الاستبيان القابعة على طاولتي وصرخَتْ بملء الفم how dare you to dream ولكن السؤال بالنسبة لي لا ينطلق من أنني تجرأت وحلمت أو كيف يمكنني أن أحلم لأن الأحلام ليست رفاهية بالنسبة لي بل هي النبض الذي يبقيني على قيد الحياة فأنا بكل بساطة لا يمكنني إلا أن أحلم حتى وإن قادتني أحلامي إلى نهايات مسدودة أو إحباطات جمّة فأحلامي هي الأوكسيجين لخلايا جسمي وروحي على حد سواء وهي الوقود الذي تحرقه محركاتي المختلفة التي تشغل كل الآلات لإنتاج المطلوب مني على كل الأصعدة حتى وإن لم يكن لها ارتباط مباشر بأحلامي. لا يكاد ينطفئ حلم إلا ووجدتُني أُشعل حلماً آخر في عملية أشبه بإدمان المدخنين الذين يُشعِلون سيجارة جديدة من سابقتها التي لم تحترق بعد إلى التمام.

مع نهاية مؤتمرنا ملأ أولادي جرارهما بما لذ وطاب من خبرات وذكريات، أما أنا فلزمني بعض الوقت كي أستجمع شجاعتي وأسترق النظر إلى جوف جرتي المظلم وأمد يدي مرتعشة خشية أن يعضها عقرب الإحباط أو تلسعها برودة أمل مفقود أو تخدشها خشونة واقع صعب لكنها اصطدمت بجسم طويل طري بعض الشيء، أخرجته وكلي حيرة وتردد، نظرت إليه ملياً، تأملت ذلك الشكل المألوف واللون البرتقالي ثم أنحنيت وأنزلت جرتي من على كتفي، وضعتها على الأرض ألتقط أنفاسي من اللهاث، نظرت مرة أخيرة إلى الجزرة وأعدتها إلى جوف الجرة، تركت الجرة مكانها وبداخلها الجزرة، ومضيت مبتسمة.


بدون تعليق: حتى عندما تتحول حياتنا إلى رقعة شطرنج كبيرة تدق فيها طبول الحرب بداية من أبسط التفاصيل اليومية انتهاء بحال بلادنا، يبقى هناك مساحة للأحلام وإن فشلنا في تحقيقها فعندئذ سنفتخر بأنه يكفينا شرف المحاولة

No comments:

Post a Comment