Saturday, July 26, 2014

سرّ الأح أوو

منذ أكثر من عشرين عاما، من ذكريات سنوات المراهقة، انتشر ذلك النوع من النكات الطويلة التي تشعر في منتصف سردها بالملل الشديد لدرجة أنك تضطر إلى الضحك ليس لأنها مضحكة بل لأنك وصلت إلى النهاية أخيرا. كانت إحداها تسمى "سر الأح أوو" وباختصار شديد يصل الباحث عن هذا السر إلى مصدر الصوت خارجا من حمام يلعب فيه شخص ما بصنبور المياه وهو يستحم فيفتح الماء البارد تارة ويقول "أح" ثم يفتح الماء الساخن ويقول "أوو".

لم يكن يعلم من ألف تلك النكتة أنه بعد سنين طويلة سيظهر اختراع اسمه "فيسبوك" ويلعب معي نفس اللعبة كلما فتحت صفحته الرئيسية وهي صفحة  تعرض لي لائحة مختارة من أخبار الأهل والأصدقاء حول العالم الذين تربطني بهم "صداقة فيسبوكية" وينشطون في "البوستات" فيما يخص صيف 2014 في حياتهم.

منذ أيام الصيف الأولى، وفي كل مرة أفتح فيها هذه الصفحة كنت أشعر بأنني ألعب تلك اللعبة ذاتها مع اختلاف نوع الصنبور. فمن صنبور أخبار الفيسبوك تدفقت صور المصايف الفاخرة التي ارتادها أصدقائي حيث تتعدد وتتنوع ما بين مناطق رائعة داخل مصر أو في العالم العربي أو حول العالم أجمع. بعضهم كان على موعد مع أكثر من رحلة والبعض الآخر اكتفى بمقتطفات صور تلخص مجمل وقته مع العائلة بعيدا عن هموم الحياة وروتين شتاء طويل. منهم من اكتفى بصور الهواتف المحمولة ومنهم من برع في التقاط صور عالية الجودة والروعة في آن معا.

كنت أجلس خلف شاشة الكمبيوتر في قيظ الاسكندرية ورطوبتها وساعات انقطاع التيار الكهربائي وأيام وأسابيع الحبس الإجباري في المنزل أتأمل قطرات الماء البارد تنزل رشاً حيناً ودراكاً أحياناً تماماً كالمدى المجدي والمدى الأقصى الذي درسناه عن البارودة التشيكية أيام التدريب العسكري في المدرسة وحصة "الفتوة" الشهيرة في حياة كل طالب سوري من مواليد السبعينات والثمانينات وما قبلها فتلك كانت فقرة الـ"أح" من لعبتي. أنهض بعدها مبتلة، أهو عرق بارد أم ماء حقيقي؟ لا أعلم، ففكري مشغول بذاتي ومنحصر حول حسرتي على ما آل إليه حال الصيف هذا العام، صيفي أنا، بعد أن علقت عليه آمالا وأحلاما منها الوردية واللازوردية بأطيافها فتخيلت الراحة والاسترخاء ومددت يدي لأتلقف البهجة والاستمتاع وشنفت أذني لأسمع ضحكات أطفالي وجهزت أقدامي لأركض في حقول الفرح أطارد طريق النحل الذي غنت له فيروز فلا اكتفاء ولا ملل من الدوران في حلقات مفرغة طالما يلفني هواء خفيف وتغادرني سموم أعوام انصرمت راكمتُ خلالها  الكثير الكثير مما هو غير صحي لروحي وجسدي ونفسي. فقرة الـ "أح" كانت أكثر صقوعة مما تخيلت فشتان ما بين صيف أولئك الاصدقاء وصيفي أنا.

"أووو" لا بل "أوووووووووو" حار جدا جدا... من فتح صنبور الماء الساخن فجأة؟ أه انه نفسه من فتح البارد ولكن أبطال المشهد هذه المرة مختلفون فالصور التي شاركونا بها ليست لهم شخصيا ولكن لآخرين يحملون نفس الهوية، نفس الانتماء، يربطهم بهم وحدة حال، حتى وإن اختلفت الوجوه فالصنبور ذو العلامة الحمراء قد تدفق منه ماء ساخن بلون أحمر وليس من يوقف شلال الدم في سوريا وغزة والعراق ومصر حيث توالت الأخبار الرسمية منها والحياتية التي ينقلها مراسلون مثلي أنا يرصدونها من دفتر يومياتهم وصيفهم الحار جدا جدا لدرجة استخدام تلك الصفة حرفيا في الوصف الانجليزي "هوت" لا بل "فيري هوت إيشوز" ويطلقون عليها في نشراتهم الإخبارية لقب "بريكنج نيوز" وهي فعلا أخبار "كاسرة" تكسر الظهر والقلب والضمير.

تختلف مدة جلسة الـ "أوو" مع اختلاف البلد والفترة التي يستغرقها الحدث إلى حين "فتور" القضية فبعد أن تصدرت أخبار سوريا المشهد حلت محلها أخبار غزة لتستوقفها أخبار الموصل ثم عودة إلى أخبار غزة ثانية وفاصل سوري آخر وتعود الكرة إلى غزة تمررها إلى الموصل ثانية وااااااااااااا هدفففففف... هدف... فلنشاهد الإعادة معا... لا انها ليست إعادة فالفِرق الأربعة تسدد وتسجل أهدافا عدة ولا وقت للإعادة ولا حاجة للإعادة أصلا فتكرار الصورة يغني عن ذلك، وها هي الفِرق تستضيف هولندا في ملعب الدم ببعضة أهداف شرفية... إنها فرنسا تنضم إلى القائمة الآن حتى وإن كانت طائرتها سقطت إثر كارثة طبيعية وليس بفعل فاعل أو بفعل حرب إلا أنها تستحق عدد أهداف بعدد أهداف مصر ربما فتلك الأخيرة غادرت الملعب مبكرا أيضا.

وطال التأوه وامتد أنين الـ "أوو" وتحول إلى عويل فنهضت ثانية بتثاقل وغادرت شاشة الكمبيوتر مستبدلة شعور الحسرة بجراد الذنب الذي بدأ يأكل الأخضر واليابس في حياتي. "ليش مانك رضيانة؟"... "شوفي مشاكل غيرك"... "ع الأقل عندك سقف فوق راسك وولادك بخير"... "في شي مرة ولادك ناموا جوعانين؟"..."حاجة تنقي بقا"... "امبسطي"..."اشكري الله ع النعمة اللي انت فيها"... "لا تفتحي تمك ولا بحرف"

التذمر ممنوع باوامر من وزارة الداخلية (الضمير) والفرح ممنوع باوامر من وزارة الخارجية (الظروف) فلجأت إلى وزارة التضامن الرهامي (الوعي) بحثا عن مستقر... بحثا عن صيف... هربا من شفير جنون... صور الصنبور الأزرق بمياه البحار والأنهار وزرقة سماء النزهات والمصايف اختلطت بصور الصنبور الأحمر وتشابه الأخبار رغم تعدد الهويات، للدم لون واحد وطعم واحد. امتزجت صور الصنابير جميعا بصور في رأسي كانت ولا تزال تصوّر لي ما كنت أحلم أن تكون عليه حياتي وأيام أسرتي الصغيرة في صيف 2014. لو صحّت نظرية المؤامرة فلابد أن تكون تلك الظروف على اتصال لاسلكي مع بعضها أو عبر الانترنت لتتفق على توقيت موحد في الوصول إلي حتى وإن لم تنطلق سوية لكنها وصلت معا بفارق بعضة أيام أو أشهر أو بضعة سنوات حتى، إلا أن مفعولها طفى إلى السطح في نفس الوقت، بعضها جاء إلى حياتي بسرعة قذيفة الهاون والآخر دبّ ببطء الحلزون وصبره.

وهاأنذا الآن في المطبخ أتأمل آنية مرتصة على الرخامة بانتظار إشارة مني، لست ذلك "الشيف" الماهر المتحكم بمجرى الأحداث ولكنني وإن لم أملك كامل الزمام إلا أنني لازلت أتمتع ببعض "الكونترول" كي أصنع شيئا ما. سأجرب وأخلط وأزيد وأنقص من مقادير ما عندي كي أتوصل إلى وصفة مثالية، ليست مثالية بالمطلق لكنها مثالية لي أنا تحديدا في هذا الوقت من حياتي تحديدا، وصفة تسعفني لأني بحاجة إلى البقاء على قيد الحياة ووصفة تغذيني لأني أريد أن أحيا ملء الحياة. سأطرد الحسرة لأنها قد تتحول إلى غيرة أو مرارة كلما قارنت نفسي بالآخرين وسأطارد الذنب لأنه يلون كل المشاعر بلون واحد لا رائحة له ولا إسم.

في أي لحظة من حياتي أنا أغنى من الكثير من الناس وأفقر من الكثير من الناس فالقرار في يدي أن أختار أية نظارة تزين أنفي. دموعي ملكي أنا وحقي أنا وليست حكرا على منطق "اللي يشوف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته" لكنني لن أقبع في مستنقع الألم فابتساماتي هي أيضا من حقي وليست عبدة لإعاقات مجتمعنا التي تحذرنا "الله يجيرنا من شر هالضحك".
عندما أبكي سأكفكف دموعي بكفي أنا وليس بسدادة دمع اسمها "احمدي الله غيرك متمني اللي انت فيه" وعندما أضحك سأقهقه وأققز وأرقص دون الاستعراض الذهني لصور المأساة السورية التي سمّرت قدماي بالأرض مع تحيات شركة "كيف فيكي تمبسطي وغيرك ما نشفت دموعو وبلدك ما نشفت دماتو".

أنا إنسان من إصدارات عام 1979 أخضعت نفسي لعملية تحديث "أبجريد" للتماشي مع "تكنلوجيا" عام 2014 فغدوت أمتلك خاصية الإبادة لعقدة طالما توارثناها هي عقدة الذنب. ذلك الذنب الذي دعوناه ضيفاً دائماً في أفراحنا وأتراحنا يفسد علينا لحظات السعادة مهما كانت صغيرة متناثرة، ويحرمنا من الحق في الحزن بحجّة أن هناك من هو أتعس حالا منا.
بدل أن نحارب الذنب اخترنا أن نهرب منه فاختلقنا سعادات تافهة وحصرنا أنفسنا بها متناسين من حولنا مجترّين مباهج الحياة بأنوف مترفعة عن رؤية البؤس من حولنا ومد يد العون فقبضتنا محكمة الإغلاق بأنانية حفاظاً على كل ما نملك بدلا من أن نمدها لنشارك المحتاج بكيس من السكر، بعضنا هرب إلى السعادة والبعض الأخر هرب إلى التعاسمة فاختلقنا شرانق حزن أبدي نحيكها من حولنا كي نجلس داخلها بأمان نلعق جراحنا دون أي نية للخروج ثانية والعودة إلى العالم فالحزن عذر مريح يعفينا من أي إنجاز أو مسؤولية تجاه أنفسنا والآخرين وبات ومن الخسارة تمزيق شرنقة قد استثمرنا وقتا طويلا في تلوينها وتزيينها وتعليق الصور التذكارية على جدرانها.

وتستمر حملة اقتلاع الذنب من جذوره واكتشاف وصفة حياة بمقادير واقعية، أما أسرار صنابير الـ"أح أوو" فهي تعمل بكفاءة حتى وإن كانت " المي مقطوعة... يا أفندي "


بدون تعليق: اخترت هذه المرة صورة من غرفة غير تقليدية في منازلنا قلما نشارك صورا منها... الحمام... وعلى المرآة علقت أربع قطع تجلب لي ابتسامة عذبة كلما لاحظتها وتأملتها فهي تعكس الكثير بغض النظر عن خناقات الليل "مين لسا ما فرشا سنانو؟"

No comments:

Post a Comment